الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من أسماء الله الحسنى المُبِين:
مع اسم من أسماء الله الحسنى، وهو اسم المبين، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في آية واحدة، قال تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)﴾
ولم يرد في السنة، ورد هذا الاسم في القرآن الكريم معرفا بـ أل، فلان اسمه راشد، راشد اسم عَلَم، أما لو عرّفت هذا الاسم لقلت: جاء الراشد، أنت تريد أن تؤكد اتّصاف هذا الإنسان بالرشد، فحين يُعرّف اسم العلم يقصد من التعريف دقة اتّصاف صاحب الاسم بصفته، إذا قلت: جاء راشد، قد يكون جاء رجل اسمه راشد، لكنه غير راشد، كأن تقول: فلان سعيد، اسمه سعيد، وهو أشقى الناس، فلان كامل، وفيه كمية نقص لا تُعدّ ولا تحصى، لذلك إذا عُرِّف الاسم العلم بـ أل أُشير إلى اتّصاف صاحبه بهذه الصفة، فاسم الله مبين ورد معرَّفا بـ أل، ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ .
شيء آخر أيها الإخوة؛ نحن نعلم في اللغة أن الكلمات معارف ونكرات، المعرفة ما دلت على مُعين، والنكرة ما دلت على غير مُعين، تقول: عاصمة، غير معين، نكرة، أما دمشق معرفة، قال بعض النحاة:
إن المعارف سبعة في قولنا كَمُل أنا صالح ذا ما الفتى ابني يا رجل
الضمير معرفة، اسم العلم معرفة، اسم الإشارة معرفه، اسم الموصول معرفة، المُعرف بأل معرفة، المضاف معرفة، المنادى معرفة.
إن المعارف سبعة في قولنا كَمُل أنا صالح ذا ما الفتى ابني يا رجل
اسم المبين مفيدٌ للمدح والثناء:
هذا الاسم يفيد المدح والثناء، والعبد عبد والرب رب، شأن العبد الافتقار، وشأن الرب المدح والثناء، لكن لو أن غنياً تواضع، وقال لمن يسأله عطاءً: أنا لا أملك شيئًا، ليس هذا المقام مقام تواضع، مقام أن تُظهِر له أنك يمكن أن تساعده، فشأن الله عز وجل المدح والثناء، وشأن العبد الافتقار.
غزوة بدرٍ وحنين درسان بليغان:
يوجد بحياة الناس درسان بليغان، الدرس الأول درس بدر، والدرس الثاني درس حنين.
النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه سيد الخلق وحبيب الحق، وهو قمة البشر، وقد اختاره الله، واختار له أصحابه، قال: إن الله اختارني واختار لي أصحابي، أصحابه والنبي على رأسهم في بدر افتقروا إلى الله عز وجل فقال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾
النبي نفسه، وهو في أعلى درجات القرب والافتقار إلى الله، لكن أصحابه في حُنَين قالوا:
(( لن نُغلب من قِلة. ))
فتخلى الله عنهم، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾
درْسا بدر وحنين يحتاجهما المؤمن في كل يوم، بل في كل ساعة، فإذا قلت: أنا، تخلى الله عنك، وإذا قلت: الله، تولاك، قل: أنا ابن فلان، يتخلّى الله عنك، قل: أنا عندي خبرات متراكمة، يتخلّى الله عنك، قل: أنا عندي تجربة غنية في هذا الموضوع، قل: أنا أعلم من حولي، يتخلّى الله عنك، إياك أن تقول: أنا، قالها إبليس:
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾
فأهلكه الله، وقالها قوم بلقيس:
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾
فأهلكهم الله، وقالها قارون:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)﴾
فخسف الله به الأرض، وقال فرعون:
﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾
فدمره الله، أنا، ونحن، ولي، وعندي كلمات مهلكات، فإذا قلت: أنا، تخلى الله عنك، وإذا قلت: الله، تولاك، ونحن جميعاً بحاجة ماسة لهذين الدرسين في كل ساعة من حياتنا.
طبيب جرّاح نسائي في بلد عربي متفوق، له زميل طبيب من المستوى نفسه، له زوجه يوجد بحملها إشكال، فذهب إليه، واتفق أن تكون الولادة عنده، ثم سأله زميله: هل ترى أن نسأل طبيباً آخر؟ قال: أنا أعلم مَن في هذه المدينة بهذا الاختصاص، بكل كِبْر، القصة طويلة، لكن مغزاها أن هذا الطبيب ارتكب خطأ فادحاً جداً لا يرتكبه ممرِّض، الأمر الذي وجب على القائمين على شؤون الصحة أن يسحبوا منه الشهادة لأول مرة في تاريخ هذا البلد العربي بعد النهضة والاستقلال، سُحِبت شهادته، لا تقل: أنا، لا تقل: ليس هناك من هو أعلم مني.
﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)﴾
شاب ناشئ ألقى درساً فتحلّق الناس حوله والتفّ الناس حوله، وأحبوه، رجل آخر مِن أهلِ العلم آلمه هذا الإقبال على هذا الشاب، فجاء إليه، وأراد أن يُصغّره، حضر درسه، فلما انتهى الدرس، سأل هذا الفتى قال له: يا هذا، هذا الذي قلته ما سمعناه، تصغيراً له، فالفتى مؤدب جداً، قال: يا سيدي وهل تعلمت العلم كله؟ فإذا قال: نعم، فقد خالف قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ قال: لا، قال: كم تعلمت منه؟ قال: شطره، قال: يا سيدي هذا الذي قلته من الشطر الذي لا تعرفه، فإياك أن تقول: أنا، قل: بفضل الله، الله مكّني أن أنال هذه الشهادة، الله مكّني أن أُتقن هذه الحرفة، الله مكّني أن أّلقي هذه الكلمة، الله مكّني أن تنجح هذه العملية.
أعرف طبيباً جراحاً عصبياً، المريض على الطاولة، يصلي أمامه ركعتين، ويقول: يا رب ألهمني الصواب، أنا مفتقر إليك، وعوِّد نفسك في كل عمل تُقْدِم عليه أن تقول: اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي، والتجأت إلى حولك وقوتك يا ذا القوة المتين، شأن العبد أن يفتقر، وشأن الرب أن تثني عليه، وأن تمدحه، كي نطمع بفضله، وكي نُقبل عليه، وكي نلجأ إليه، وكي نعتمد عليه.
لا تُظهِر نفسَك وتعتِّم على غيرك:
أيها الإخوة؛ لكن بالمناسبة إذا مُدح المؤمن ربَا الإيمان في قلبه، هناك إنسان من طبيعته لا يُظهِر مَن حوله إطلاقاً، تعتيم شديد على مَن حوله، وتسليط للإضاءة شديد على شخصه، هو يَكْبُر ومَن حوله يصغرون، ليس هذا من شأن النبي عليه الصلاة والسلام،
(( عنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. ))
[ حسنه الترمذي. صححه الحاكم ووافقه الذهبي ]
أثنى على عمر، سيدنا الصديق ما ساءني قط، ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر، سيدنا ابن الجراح أمين هذه الأمة، كل صحابي أعطاه النبي حقه، هذه بطولة أن تُظهِر مَن حولك، لا أن تُعتِّم على من حولك.
فلذلك أيها الإخوة؛ إذا مُدح المؤمن رَبا الإيمان في قلبه، والمؤمن الصادق إذا مُدح والله يزداد تواضعاً لله، يزداد محبة له، يقول: يا رب، إني تبرأت مِن حولي وقوتي، والتجأت إلى حولك وقوتك، يا ذا القوة المتين، يا رب هذا فضلك، يا رب هذا توفيقك، يا رب هذا من عندك، يا رب هذا من تأييدك، فلذلك المؤمن الصالح إذا مُدح ربا الإيمان في قلبه، أما هناك أشخاص إذا مدحتهم يُصدقون، ويستعلون، ويتغطرسون، ويعانون من أمراض نفسية كانوا في غنىً عنها، إذاً أنت أيها الأخ المؤمن كن حكيماً، إذا كان مدحك يسوق الإنسان إلى الكِبر إياك أن تمدحه، لذلك ورد أيضاً:
(( عبد الله بن عمر أنَّ رجُلًا مدَح رجُلًا عندَ ابنِ عمرَ فجعَل ابنُ عمرَ يرفَعُ التُّرابَ نحوَه وقال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إذا رأَيْتُم المدَّاحينَ فاحثُوا في وجوهِهم التُّرابَ. ))
ورد نهي عن المديح، وورد ثناء على المديح، هذا بحسب حال الممدوح، فإذا كان مؤمناً ربا الإيمان في قلبه، وإن كان غير مؤمن ازداد كِبراً وغطرسة واستعلاء.
علاقة التوكل الأخذ بالأسباب:
أيها الإخوة؛ قضية التولي والتخلي أخطر شيء في حياتنا، قل: الله، حقيقة المؤمن أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، سهل جداً أن تأخذ بالأسباب، وأن تعتمد عليها، وأن تؤلهها، وأن تنسى الله معها، وهذا شأن العالم الغربي، وسهل أيضاً ألا تأخذ بها جهلاً وتواكلاً وتقول: توكلنا على الله، سيدنا عمر رأى أناساً يتكففون الناس في الحج، سألهم: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض، ثم توكل على الله، يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذا شيء مهم جداً أيها الإخوة.
إذاً المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها، يعتمد على الله، قبل أن يسافر يُراجع مركبته مراجعة دقيقة، ثم من أعماق أعماقه يقول: يا رب أنت الحافظ، أنت الموفق، أنت المُسَلّم، أما ألا يأخذ بالأسباب، ولا يراجع المركبة، ولا يتفقد مكابحها، ولا أجهزتها، ولا وسائلها، ويقع الحادث، ويقول: هذه مشيئة الله، هذا افتراء على الله، هذه نتائج التقصير، ويوم يفهم المسلمون أن الأخذ بالأسباب من الدين، بل هو من صلب الدين لما كانوا فيما هم فيه الآن من ضعف، لكن العالم الغربي وقع في متاهة أخرى، أخذ بالأسباب واعتمد عليها، ونسي الله، وتغطرس، فأدبه الله عز وجل.
الإنسان يؤدَّب مرتين، مرة إذا أخذ بالأسباب واعتمد عليها، وأشرك مع الله، ونسي ربه، ومرة إن لم يأخذ بها، في الحالتين يُؤدّب، لذلك البطولة أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست شيء.
الكون مسخَّر للإنسان تعريفاً وتكريماً:
أيها الإخوة؛ الكون كما تعلمون مسخر تسخير تعريف وتكريم، تماماً كما لو قدم لك أحدهم جهاز هاتف متطور جداً، وفيه خدمات كبيرة جداً، قدمه لك هدية، وهذا الجهاز من اختراعه، أنت بماذا تشعر؟ تشعر بإكبار لهذا الإنجاز العلمي، وتشعر بامتنان لأنه أعطاك إياه هدية، هذا مثل للتبسيط.
هذا الكون الذي سخّره الله للإنسان، سخّره له تسخير تعريف وتكريم، من أين جئنا بهذا المعنى؟
(( عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ. ))
[ أبو داود وفي سنده ضعف ]
أي هلال خير أنتفع به، وهلال رشد يُرشدني إلى ربي، هذا منهج، الطعام أمامك، طعام خير ورشد، تنتفع به، وتتعرف إلى خالقك، نظرت إلى السماء، نظرت إلى النجوم، نظرت إلى البحار، نظرت إلى الجبال، نظرت إلى الأسماك، إلى الأطيار، كل شيء سخّره الله لنا، سخره لنا تسخير تعريف وتكريم، ردُّ فعل التعريف أن تؤمن، وردُّ فعل التكريم أن تشكر، فأنت حينما تؤمن، وحينما تشكر حققت الهدف من وجودك، لذلك إنْ آمنت وشكرت توقفت المعالجة، الدليل قال تعالى:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
في اللحظة التي تؤمن بها بالله، وتشكره على نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد فقد حققت سرّ وجودك وغاية وجودك، واعلم علم اليقين أنه ربما وفي الأعم الأغلب وإن شاء الله تتوقف كل المعالجات، لذلك ورد في بعض الأحاديث،
(( عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ. ))
[ الترمذي والحاكم في المستدرك ]
أنت إذا دعوت، وأنبت، واستقمت، وتبت يُوقف كل شيء بحقك، وهذه بشارة كبيرة جداً.
التوحيد لا يعفي من المسؤولية:
أيها الإخوة؛ ولكن كما تحدثت عن التوحيد لابدّ من التنويه، الله عز وجل حينما سمح لموضوع حديث الإفك أن يكون قال في القرآن الكريم:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)﴾
لأن كل شيء وقع أراده الله، ولأن كل شيء أراده الله وقع، ولأن إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، ولأن حكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق، أبداً، فخير، لكن لئلا يتوهم الإنسان أن القضاء والقدر يُعفيه من المسؤولية، قال: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ كي أترجم هذه الفكرة إلى حياتنا؛ طبيب أهمل مع ممرضة بالمستشفى بحديث غزلي، جاء إنسان بالإسعاف، قال لهم: انتظروا، فمات، مسؤول، أخي سبحان الله! مات بأجله، لا، أنت مسؤول، الدليل:
(( عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ. ))
[ أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم: حسن ]
مسؤول، التوحيد لا يلغي المسؤولية.
الاشتقاق اللغوي لاسم المبين:
أيها الإخوة؛ المُبين اسم فاعل من المشتقات، نحن لغتنا لغة اشتقاق، وهي من أرقى اللغات الإنسانية، المُبين اسم فاعل، نحن في لغتنا اللغة أُسَر، هناك أسرة جدها بانَ، فيها اسم فاعل بائن، فيها فعل رباعي أبان، فيها اسم فاعل رباعي مبين، هناك بينونة، هناك أَبِن، هناك يبين، يوجد عندنا فعل ماضٍ، فعل مضارع، فعل أمر، اسم فاعل، اسم مفعول، صفة مشبهة باسم الفاعل، اسم تفضيل، اسم مكان، اسم زمان، اسم آلة، لغتنا من أرقى اللغات، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى اختارها لكلامه:
﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾
وهناك باللغة لقطات مذهلة، اللغة العربية تتسع اتساعاً مذهلاً، هناك كلمة نظر، يوجد حدّج، حدج نظر مع المحبة، ورد: حَدِّث القوم ما حدجوك بأبصارهم، يوجد نظر شزراً، مع الاحتقار، يوجد شَخَص مع الخوف، يوجد حَدج، يوجد بَحْلق مع التحديق، يوجد حملق، ظهر حملاقُ العين، يوجد استشرف مع التمطي، يوجد استشف مع اللمس، يوجد لَمَح، نظر وأعرض، يوجد لاح ظهر واختفى، يوجد رنا نظر مع السرور، العربية من أرقى اللغات الإنسانية، لكن اللغة تضعف بضعف أهلها، وتقوى بقوتهم، في العربية مثلاً كتب، وهناك مكتب، وهناك كتابة، وهناك كتاب، من أسرة واحدة، وفي اللغة الإنجليزية Write, Book, Table، كل كلمة من اشتقاق، نحن كتب، يكتب، كاتب، مكتوب، مكتب، كتاب، هل نظرت إلى النظام الأسري؟ فلذلك المُبين اسم فاعل من أبان، أظهر، أما بائن مِن بان، فعل لازم، بان اسم فاعلها بائن، أما أبان اسم فاعلها مبين.
الآن بانت المرأة؛ انفصلت عن زوجها، وفي الطلاق الثالث تكون البينونة الكبرى، في الطلاق الثالث.
شيء آخر؛ المبين الواضح:
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)﴾
السحرة جاؤوا بأنابيب، وطلوها على شكل ثعبان، وضعوا فيها زئبقًا، وضعوها على مكان ساخن، تمدّد الزئبق، تحركت هذه الأنابيب المطاطية، ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ قال تعالى:
﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)﴾
﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)﴾
شيء رائع جداً: ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ أي واضح.
الخسارة الحقيقية أن تخسر الله:
﴿ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)﴾
حينما يرى الإنسان أنه خسر الأبد، وخسر الآخرة قال تعالى:
﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾
الخسارة الحقيقية أن تخسر الله، أن تخسر الجنة، أن تخسر الأبد.
البيان أرقى أداة اتصال بشري:
لذلك أبان أظهر، والبيان الفصاحة، قال تعالى:
﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
البيان أرقى أداة اتصال بشري، لو فرضنا هناك دولة وهناك نظام، لكن لا يوجد لغة، وأراد حاكم هذه البلدة أن يمنع التجول، ماذا يفعل؟ يحتاج إلى شرطي لكل مواطن يدفعه إلى البيت، يصدر بياناً بأربع كلمات لا تجد بعد ذلك إنساناً بالطرقات، أرقى أداة اتصال بين أفراد المجتمع البشري اللغة، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ أيضاً البيان شفهي للتواصل المباشر، وكتابي للتواصل غير المباشر.
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)﴾
البيان الكتابي ينتقل من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر، والبيان الكتابي مع الترجمة ينتقل من أمة إلى أمة، ومن ثقافة إلى ثقافة، والإنسان خُصّ بالبيان:
﴿الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (( عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: إنَّكم في زمانٍ كَثيرٌ عُلماؤه قَليلٌ خُطباؤه، كَثيرٌ مُعْطُوه، الصَّلاةُ فيها قَصيرةٌ، والخُطبةُ فيها طَويلةٌ، فأقْصِروا الخُطبةَ وأطِيلوا الصَّلاةَ، وإنَّ مِنَ البيانِ لَسِحْرًا، ومَن أراد الآخرةَ أضرَّ بالدُّنيا، ومَن أراد الدُّنيا أضَرَّ بالآخرةِ، يا قومِ، فأَضِرُّوا بالفانيةِ للباقيةِ. ))
[ صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه: المستدرك على الصحيحين ]
(( عن أُبي بن كعب: إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً. ))
وسوف نتابع هذا الموضوع في لقاء آخر إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الملف مدقق